6ـ سوق أُمْ دَفَسُو
كانت هي المحطة الأخيرة عندما توقفت بنا تلك الحافلة العجيبة, والتي لن أنسى ما دار لي فيها- رغم قصر المسافة – من أحداث ومآزق! كنت أول الركاب نزولاً وابتعدت عن الحافلة نحو السوق العشوائي الصغير الذي يبدو أمامي, وبينما أنا كذلك, فإذا بأحدهم يصيح كأنّه يقصدني, لكنني عرفت الصوت, لأنه نفس وذات الصوت الذي كان يجادل السواق مدافعاً عني في الحافلة!.
- يا زول كيفنك.. إن شاء الله بلغت الصحة.. هسع إنت كويس!.
- الحمد لله كويس طب....!! بارك الله فيك يا ود عمي..!.
- ظاهر عليك جاي من بعيد... يازول خابر كويس الدرب البوديك للناس الماشيلُن...؟ الوطا بقت ضلام... كان مُتْشّكِّك... وَرَح بِيت معاي والصباح رباح..!.
- مشكور يا ود العم.. البيت خابروا طب... أنا جيتو كتير... حرَّم ما بتقصر...!
- دحين ماش لمنو في الأخوان؟!.
- أنا باقي ماشي لي ناصر ود المقدم سيد الفرن الجَمْبْ جامع البرقاوي....
- ها زول ...؟! دا ما الزول الإحيمر أبشنبات داك؟!... زولاً شوية كده صعب ونَفَسُو حار...!.
- كتلتو تب... كان كده انت بتعرفوا خلاص..!!
- أيّا... زولك ده كان كدي قريب وانا بعرفو خلاص... لا لا ما عندك عوجة طب!... كان حصل احتجت أي حاجة قول بيت عبد القادر الحسّاني وينو.. ناس الحلة بخبروني كلهم... اسم الكريم منو...؟.
- العوض ود اسماعيل!......
- حبابك يا ولدي خلاص مع السلامة....اتوكل ساي حرّم عوجة ما بتجيك!!.
تركني وذهب هو لحاله, وواصلت مسيري متوغلاً داخل سوق (أُمْ دَفَسُو) الذي بدا حينها خاليا,ً إلا من بعض المطاعم العشوائية الليلية وبائعات الشاي, كانت نفسي تشتهي كوباً (مظبوط) من الشاي, لأن الصداع الذي إستثاره صاحب العطر الباريسي -والذي كان يجاورني في الحافلة المشئومة – ما زالت آثاره باقية ,وضربان العروق على رأسي مستمر... لكنه تركز بصورة أكثر على أحد الجانبين. لم أَرَى شيئاً سيسكته سوى كوب من الشاي متبوعاً بعدة فناجين من القهوة (الصاموتية). أخذت أتأمل في بائعات الشاي اللاتي أمامي, لم أستطع تمييز سوى بعض الوجوه التي ضرب عليها ضوء (الرتينة) التي كانت بإحدى المطاعم العشوائية المجاورة, وقد أفزعني وهج الجمر المحمر على المواقد, وهو (يُطَقْطِقْ) مع مداعبة هواء تلك العشية المنعش وهو يحمل إلى أنفي المنكوب تارة دعاش الشاي المعطر بالهبهان, وتارة يغمرني بأريج القهوة المضمخ بطيب الجنزبيل ، ومنظر (البَنَابِر) وهي مرصوصة حول كل منهن, والزبائن يجلسون عليها وهم يتسامرون أثناء تناولهم للشاي أو القهوة ، فكانت لوحة جميلة أعجبتني كثيراً, وفي ذات الوقت أربكتني وجعلتني أتردد في إتخاذ قرار حازم.... وصرت محتاراً مع أيّ منهن سأجلس- وكان عددهن حوالى 4 أو 5 أو أكثر لا أذكر جيّداً- حتى (أَوْزِن) رأسي وتمثلت حالي بقول الشاعر:
تكاثرت الظباءُ على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
كنت -خلال تفحصي لوجوه ستات الشاي ذينك- لا أنظر إلى اللاتي يجلس حولهن عدد كثير من الزبائن, لأنني في ذلك الظرف كنت أريد مكاناً هادئاً،ً لذلك قصدت إحداهن كانت تتخذ موقعاً مطرِّفاً و(البنابر) التي تحيط بها تكاد تخلوا ممن يجلس عليها سوى بَمْبَر(وحيدو) كان يجلس عليه (عمك كبير ليهو شنيبات) وهو يتناول قهوته بكل جدية وأدب, كأنه يؤدي في طقوس روحية مقدسة...! برغم أن القهوة عند الكبار تعتبر روتيناً يومياً الإقلاع عنه ممتنع...إلا أنه أحياناً قد تستنكرها لدى بعض(الشياب) المنهكين جسدياً بفعل عامل السن لأن (شراب الجبنة الكتير بحرق الدم) هكذا تقول الحاجات والحبوبات عندنا...!
- سلام عليكم.
وبتلك التحية قطعت ما كان يدور من (ونسة) بين الحاجة (ست الشاي) وعمك الشايب:
- أهلاً يا وليدي إتفضل..!.
ومن لهجة كلامها بعد ردها للسلام, ومما سمعته من طريقة حديثها مع زبونها (أبو شنيبات) عرفت أنها (كردافية) من نساء أهلنا الذين في كردفان خصوصاً عندما تفرست بصعوبة ملامحها, من خلال الأضواء الخافتة التي كانت تجيء من هنا وهناك من مصابيح (حبوبة ونِّسِيني) لبائعات الطعمية والعشاء الليلي, فصاحبتي لا تملك (لبودة) حتى... فهي تعتمد فقط على تلك الإضاءة المجانية على ردءاتها!.
سحبتُ (بنبراً) بإحدى قدميّ ثم جلست عليه, وأنا كلِّي إعجاب لأمثال هؤلاء النسوة المجتهدات, وهن يبقين في السوق يطلبن الرزق إلى أن يخيم الظلام دون أن يقهرهن الخوف مما تخفيه تلك الظلمة من شرور ودواهي!. ثم التقطت أنفاسي:
- يا خالة كباية شاي مظبوطة.... راسي دار يطق...! وعاوزك تعقبيها لي بقهوة مكررررَّبة جنزبيلا تقيل....!!.
- حااااضر يا وليدي... عاد الليلة كان ضُغْتَ شاهِي وجَبَنْتِي ديْلا... عِلَّا باكر من المِغيرِب نَشُوفُوك مَحَكَّر في البَمْبَر تَعِيْط... : خالتي مبروكة أَنْتِيْنِي جبنة...! هووووْي تَرَى...! اَنْتَ جبَنَتْ خالتك مبروكة دِي كَِيْ ما بْتَعَرْفُوهَا... أنَِي تَرَى ما بْنَسَوُوْ الحاجِي الخَمَجْ....!.
ضحكت لتلك الثقة وعجبت لهذه الإجابة العفوية الدافئة, والتي ملؤها الترحيب والقبول, لا سيما وأنها طرقت أذناي من صوت كردفاني حنون كأنك تحس بدفء أشواقه وهو يحتضنك وقد التف حولك معانقاً.... وكأنك تحس بحرارة سلامه في يدك مصافحاً!. لم أشعر وقتها بأنني في أم درمان.. جالساً في سوق (أُمْ دَفَسُو) بأمبدة... إنما كنت أتخيل وكأنني بالأبيض جالساً مع إحدى ستات الشاي في سوق (اَبْشَرَاْ ) أو سوق (الصالحين)! يا سلاااااام...... إن الأمكنة أيضاً تتحدث وتخبرك بأخواتها وبنات عمّها في كافة المدن وفي شتى بقاع الأرض!. لماذا يكلمني سوق أم دفسو عن سوق اَبْشَرا في الأبيض مذكراً إياي بالإنسان الذي مازال طيفه يحوم هناك في ذلك المكان وقد تمثل الآن حولي لكن بألوان غريبة ومظهر ربما أغرب!
ماذا أقول لك عن الذكريات أيها القارئ... لا أحب الحديث عنها لأنها دائماً ما تهزني وتجعلني أشعر بالحزن... نعم إنّ فيها أشياء ربما كثيرة جميلة تستحق الوقوف والبكاء على الأطلال! لكن الجميع – الماضي السيء والماضي الجميل – يشترك في أنه يغرقك في بحار من الحزن والحنين, بسبب أن جميع تلك الذكريات مكبلة ومقيدة في سجن الماضي وميئوس من إطلاق سراحها, حتى تتجسم واقعاً نلامسه ونواقعه ولكن هيهات فلا يبقى إلا الحنين والأمنيات...!.
ثم إنّ الحاج الذي كان جالساً نبهني من السَرَحان:
- شوف يا ولدي خالتك مبروكة دِي بس قوليها سويّ لَيْ قَهَوة ولّا شاي ... واسكت ساي... بعدين بعد ما ضُّوقو براك تقتنع....!.
- كان كده أنا ما وقعت في المحل التمام... باقي انا من ما مرقت من البلد كل الشايات الجغَّمْتَهِنْ والقهاوي الشِّرِبْتَهِن... كلها ما وقعت في راسي! خلاص كان كده... خالتي مبروكة بتجيهني تب! والجواب يكفيك عنوانو!.
(انْبَسَطَتْ) الخالة لعبارات المدح والثناء البسيطة تلك... وسُرّت كثيراً ولمست ذلك جلياً في نشاط حركتها (وكبكبتها) لأجل تحضير الشاي, وقد امسكت في إحدى يديها بقطعة قماش – لم أستطيع تمييز لونها (الدنيا كانت ضلام)- وجعلت تدعك بها (الكباية) التي كانت تحيطها بأصابع يدها الأخرى, وبعد أن فرغت من (تَتْمِيرِها) أخذت صينية صغيرة وفعلت بها كما فعلت بالكوب, ثم وضعت الكوب الوضيء (الَمَتمَّر) على الصينية النظيفة (المَجَلّيَة) والجميع على منضدة حديدية صغيرة بجانبها... بعد ذلك أخدت بملعقة كبيرة – وهي في الحقيقة ليست ملعقة لا في شكلها ولا في حجمها فهي أشبه بالكامشة الصغيرة منها بالملعقة – ثم غرفت بها من (برتمانية) معبأة بالسكر, وبعد إمتلاء الملعقة العملاقة بالسكر تماماً قامت بإفراغها وبسرعة في الكباية, بعدها أمسكت بمصفاة بلاستيكي صغير وغمرته في ماء كان في باقة صغيرة كانت قد قطعت من منتصفها, ثم ضربت به أي (الصفّاي) على جانب ذلك الإناء البلاستيكي – الذي صمم بعد قطع الباقة من أعلى منتصفها قليلاً- عدة ضربات ووضعته على الكوب فصار له كالغطاء, بعد ذلك أخذت ملعقة صغيرة – لكنها ملعقة حقيقية هذه المرة – وعبأتها مرتين أو اكثر لا أذكر من "برتمان" من النوع الذي يخصص للمربى ملئ بحب الشاي, وأفرغت الكل على (المُصْفَى), ثم عمدت إلى عدة (برتمانيات) أصغر حجماً, وجعلت تأخذ بذات المعلقة الصغيرة تلك من كل واحدة منها, لكنها لم تكن تعبئها كما فعلت مع السكر وحب الشاي, بل كانت تعبئ فقط طرف الملعقة, وبذلك أخذت من كل واحدة مقداراً صغيراً!... وهكذا تكون قد أضافت إلى حب الشاي المكوّم على المصفى عدة أنواع من المُحسِّنات و (البهارات) التي تلزم الشاي (المجَيَّه). بعدها التفتت نحو الموقد الذي كان جمره قد التهب, حتى صار يتلألأ وقد تطاير منه الشرر, محدثاً بذلك جلبة مخيفة من أصوات الطقطقة وفوران الماء وغليانه داخل الكفتيرة. أخذت الهبابة وجعلت تهب على الموقد لمزيد من الغليان والفوران, فزادت الطقطقة وارتفع صوت الإزيز, وبدأ الشرر يداهمني وهو يحمل معه تيار هوائي حار وساخن! وبعد عدة دقائق أخذت الكفتيرة وجعلت تصب الماء المغلي على (المُصْفَى) ليقع على الكوب وقد تلون بحمرة الفراولة مقتبساً طعم الشاي ونكهة الجنزبيل ورائحة القرفة والهبهان, وغيرها مما لا أعرف من (الأدوية) المخصصة للشاي!. إمتلأ الكوب تماماً ... أعادت الكفتيرة إلى الموقد, وأبعدت المصفى عن الكوب, وأخذت ملعقة صغيرة وحركت الشاي حتى يذوب السكر (الحاتِل) في قعر الكباية, ثم قامت بنفسها وقدّمت لي الشاي وقد وضعته على التربيزة الحديدية الصغيرة – من النوع القديم – التي كانت أمامي!.
- اتفضل يا عشاي ... هوووي يا عيال البَحَرْ.... انتو تَرَى ما بْتَعَرْفُوْ ناس كردفال ديلا . أَنِي الزبون كان جانِي ذََيْ دَهْ اَبْنَخَدْمَا ذَيْ الضيف. كان ما عِنْدَا قروش ذاتا ما بْنَسْعَلا.. يشرب شاهِيهو ويَمْشُو ساي.
- يا خالة العفو ياخي.... انتي بتكلميني بي ناس كردفان؟... أنا خابرن كويس ناس كردفان ديل ... أنا ما عشت معاهم زمن... حرّم الكرم حقهم ... ناس بيحترموا الضيف شديد!.
أمسكتُ بكوب الشاي وجعلت أرتشف منه بشغف والتذاذ, كان بالفعل شاياً – مكرّباً – إلا أن مذاق الشاي صار طاغياًعليه, حتى أنك لتجد مرارة وطعم حادق عندما تتذوقه. ولم أستغرب للأمر بل توقعت ذلك, لأنني أعلم مسبقاً أن أهلنا في كردفان يحبون الشاي (التقيل) والمُركّز من الناحيتين: من السكر ومن مادة حب الشاي! ورغم ذلك المذاق المر - والذي بالطبع ليس بسبب نقص السكر – لم أطالب الحاجة التي تفانت و (اِتْقَطَّعَتْ) في تحضيره وإعداده, بأن تعد لي كوباً آخر من الشاي تراعي أثناء تحضيره أن لا تركز فيه مادة حب الشاي بأكثر مما يجب... لم أفعل ذلك برغم عدم إرتياحي لذلك الطعم المر, ليس لأجل إحترامي الزائد للحاجة, أو تفادياً لإضافة خسائر جديدة إلى كاهلها الضعيف, وليس لأنني إستحييت أن أتعبها مرة أخرى بسبب كوب شاي لا يستغرق شربه سوى عدة دقائق حتى ولو كان مذاقه مراً وغير مقبول. لكنه كان لديّ معلومة إستقيتها من كبار أهلي ممن يتصفون بالحكمة وهي:أن الصداع الضارب (الشقيفة) لا يذهبه وليس له علاج ناجع: سوى تناول كوب معبأ تماماً بشاي من النوع (التقيل)! لذلك فطنت إلى أنني قد وُفِّقْتُ بتناولي للشاي مع هذه الحاجة المبروكة التي هي اسم على مسمى! ولا ادري عزيزي القارئ كيف كنت ستفعل إذا رأيتني وأنا أتجرع ذلك الشاي, فأنا متأكد في أنك سوف لن تتمالك نفسك من الضحك, فمع كل جرعة أو (جُغْمَة) من ذلك الشاي.. كان لابد لي أن أغمض عيناي وأعض على أسناني وأضراسي وأمط شفتاي, حتى إذا وجدت تلك المادة المرة طريقها إلى حلقي ثم إلى داخل المعدة, أقوم فأخرج لساني وألعق ما بخارج شفتاي لأزيل ما علق بهما من ذلك الشيء المر, وأحياناً أطبقهما بقوة ليلعقهما لساني من الداخل. وكل ذلك يحدث تلقائياً أو قل إذا شئت غصباً عني!... يا لهول ذلك الشاي الصاموتي.. لو كان الوقت نهاراً لاستغرب وتعجب من حولي, وربما جعلوا مني (ضُحكة) أو أضحوكة لكن لحسن الحظ كانت الدنيا ليلاً (والليل غطّى الجبال)!!.
وعندما تجرّعت بصعوبة بالغة آخر (جغمة) من ذلك الشاي (القرض) أوقل شاي العقرب, ووضعت الكوب على الصينية الصغيرة -.. لا إله إلا الله !.. يا زول ها قسم لامِن عِرقْتَ !- كأنها كانت تتابعني ما أن لامس قعر (الكباية) الفارغة سطح الصينية -وأنا أضعها- فإذا بالحاجة تقوم بنشاط من بنبرها وهي تحمل صينية أخرى مجهزة بالقهوة, ثم قصدت نحوي وحينما وصلتني: أخذت صينية الشاي بشمالها ووضعت الأخرى-الخاصة بالجبنة- بيدها اليمنى أمامي على "التربيزة" القزم. ما أدهشني أنني أثناء انشغالي بشرب الشاي لم ألحظها وهي تعد القهوة, إذ أنني لو فطنت إلى ذلك لطلبت منها أن تتوقف عن إعدادها. لأن مذاق الشاي غيّر مزاجي تجاه القهوة, وبالطبع من البديهي أن الذي يجيد تحضير الشاي تلقائياً يجيد تحضير القهوة, لأن إعداد كل منهما يتطلب نوعاً وقدراً من الفَنِّيَّات والذوق الراقي, وأقصد أن الذي يقوم بإعدادهما يفهم ذوق العامة, وربما فطن إلى الذوق الخاص, أي يستطيع أن يعد لك شاياً حسب الطلب أو قهوة حسب الطلب! لكن يبدو أن خالة مبروكة لها وصفة نموذجية ثابتة لا تقبل التعديل لكل من الشاي والقهوة, فمقادير كل من البن المسحوق وحب الشاي يجب أن تضاف بمقادير معلومة, متخذة الملعقة (المَقَنْطَرة) من النوع المتوسط كمقياس للكيل, وحتى الأدوية والبهارات والتي تستخدم كمنكهات أو مكسبات طعم ورائحة توليها أهمية خاصة ولا تتهاون في إضافة المقدار الذي تراه مناسبا,ً وبما تقتضيه تلك الوصفة النموذجية المُتَوَهَّمة!... فأي خلل من شأنه أن يزيد أو ينقص في المقادير التي تعلّمَتها وحفظتها لتلك الوصفة السحرية, حتماً سيؤدي في النهاية إلى أن يصير الشاي الذي تم إعداده سيء المذاق وذو نكهة غير طبيعية, وكذلك الحال للقهوة فإنها ستصير غير جيدة وطعمها غير مستساغ!... لتلك الأسباب والمفاهيم المغلوطة فإن هذا النوع من ستات الشاي تكاد لا تطيق أن تحدد لها مواصفات الشاي الذي تود أن تعده لك, أو تصف لها مميزات القهوة التي اعتدت على تناولها فهي لا تقبل ذلك أبداً وتراه تدخلاً سافراً في شئون مهنتها التي ترى أنها تجيدها إلى درجة الإتقان, لا سيما وأنها قضت طرفاً من عمرها وهي تعمل فيها. فمثل هذا الكلام الفارغ من الأوامر والطلبات يعني إنتقاص من قدرها وإستهانة بقدراتها في إجادة وإتقان مهنتها الشريفة تلك! فأنا أفهم جيداً طبيعة أولئك النوع من النسوة اللائي يعملن في مهنة الشاي, دائماً ما تحيط نفسها بهالة من التعظيم وإكبار الذات وكأنما تعمل وزيرة وليس مجرد بائعة شاي!.. تجلس على طريق قذرة أو في أحسن الأحوال على هامش الأسواق الطرفية! وكأن زبائنها وروادها ليسوا أولئك (الشماسة) وأصحاب النوايا السيئة والأفكار الفاسدة الهدامة للقيم والأخلاق. فأنا لا أُعَمِّمْ لكن تلك هي الصورة الغالبة, والنمط السائد فما أقوله عن معايشة ومشاهدة وليس ببهتان أو تلفيق ما ليس هو في الواقع, ورحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه!.
- أها يا ولدي شايي طلع كيف؟!.
لقد أحرجتني بسؤالها المباغت ذلك وجعلتني أحتار كيف سارد عليها: هل أكذب أم أخبرها بحقيقة إنطباعي تجاه الشاي, والذي لو كان السر حاضراً معي وأخذ (جُغْمَة) واحدة منه لوضع الكوب أرضاً ولصاح بالحاجة الموهومة (ده شنو الشاي القرض ده؟!) ولإلتفت نحوي ضاحكاً (الليلة حالِف تَشَرِّبنا شاي العجايز؟!) ونفسي لا تطاوعني على الإفصاح, حتى لا أمتص ذلك الحماس الذي جعلها تتحرك في خفة وسرعة كأنها شابة صبية, فهي بسؤالها ذلك تريد المزيد من الدعم وعبارات المدح والإطراء, لهذا رأيت أنه ليس من الذوق والمروءة أن أنفِّس أنبوب حماسها وإعجابها بنفسها, والذي إنتفخ ممتلئاً عجباً وغيرة على مهنتها أن ينتقص من قدرها !.. لم أشأ أن أنفِّس كل هذا الإنتفاخ العظيم بإبرة صغيرة حادة تنطلق من طرف لساني لتخترق ذلك الجلد الرهيف, فيبدو صاحبه قزماً كما كان بعد هروب الهواء من الهالة التي كانت تحيط به! أنا لا أريد أن أجبر ذلك الموهوم حتى يبدو صغيراً, لأنني وراء ذلك الجلد الشفاف الممتلئ تهيأ وعجباً, كنت أرى ذلك القزم قابعاً يجرجر أذيال الخيبة والصغار, فلا داعي لإستظهار ما هو واضح وجلي للعيان بالنسبة لي... فغالبتني نفسي إلا أن أجيبها بشيء من التعريض وعدم التصريح أو التعرض لمذاق الشاي وكونه (شاي ظريف) أو (شاي عجايز ساي)!.
- يا زولة ما ده شاي كردفاني بالصح! قسم بعد ما كملت الكباية لا من عرقت!
- تَسْلَم يا وليدي ... أها شِيف قهوة خالتك كيفنّها!
ثم ذهبت نحو بنبرها لتؤدي بعض مهام الغسيل لآنيتها, أثناء ذلك كانت تتبادل الحديث مع عمك أبو شنب و الذي كان يدور حول الحرامي الذي قام بسرقة جهاز تلفاز ومبلغ مالي كبير من أحد زبائنها الذي كان دائماً يرافق هذا الحاج والذي فرغ من تناول قهوته ولكن يبدو أنه لم يفرغ بعد من (الشمارات) وأخبار الحارة.
- يا عمي عليك الله تعال جاي أشرب لك معاي فنجان فناجين من قهوة الخالة المكرَّبة دي....
- مشكور يا ولدي ... أنا حدي الجبنة الصغيرة دي تاني ما بزيد عليها.
كنت أود أن يشاركني شربها, فما لقيته من الشاي أخشى أن أجده في القهوة, أو ربما يكون الأمر أكثر سوءً, في النهاية إستسلمت وعبأت الفنجان الأول وقربته متخوفاً نحو فمي ثم أخذت الرشفة الأولى ... والثانية ... لم ألاحظ شيئاً غريباً ثم إرتشفت "جغمة" ثالثة.. وحينها تأكد لي أنني أشرب قهوة عادية ليس فيها مايريب سوى أنها حارة المذاق بسبب الجنزبيل الزائد عن الحد المعقول .. سررت بكونها ذات مذاق مقبول بدأت أرتشف بسرعة وصرت أفرغ الفنجان تلو الآخر حتى أفرغت ما يزيد على الأربعة فناجين في دقائق معدودة ... رغم أن الجلسة كانت جميلة وتقتضي من الفرد إطالة المكوث وإستغراق أطول زمن ممكن في تناول القهوة, إلا أنني لم أحب أن أتباطأ, خصوصاً عندما نظرت إلى الساعة فوجدت أن الزمن بدأ يسرقني. أخرجت من جيبي مبلغ خمسة وعشرين قرشاً (طرّادة) في عملة ورقية واحدة وناولتها للحاجة:
- هاك يا الخالة شيلي حقك....
إستلمتها ثم ناولتني بعض العملة الحديدية (الفَكَّة), لا أذكر قيمتها لأنني لم أتفحصها, ثم أخذت حقيبتي متوجهاً نحو فرن ناصر ود المقدم, وسيستغرق ذلك بعض الوقت حتى أصل إليه!.
- أها مع السلامة يا الخالة ومع السلامة يا عمي.
فردا عليّ مجتمعين.
- الله يسلمك يا ولدي.