ameen altaher derar شجرابي
الجنس : الاسم كامل : امين الطاهر درار
| موضوع: روايه السر والعوض السبت 28 يوليو 2012, 9:17 am | |
| نواصل 3ـ إلى حاج عبد الواحد خرجنا من مبنى الجوازات, وكان من الطبيعي أن نتوجه إلى بين "العزّابة" في أمبدة فهو المكان الوحيد الذي نأوي إليه في هذه المدينة التي الجميع فيها ينكرك ويتبرأ من معرفته بك..! بل قد يصل الأمر ببعضهم أن ينكر حتى صلة القرابة والرحم التي قد تربطه بك، ويا ويل من أضطرته الظروف، سواء أن كان ذلك لأجل العلاج من مرض أو لأداء إجراءات سفر للخارج أو غير ذلك ليقيم بضع أيام مع أحد معارفه أو حتى أقاربه والذي يقيم بالعاصمة – لا فرق سواء كان يسكن في بيت إيجار أو ملك – هنا: (يتْحَنْفَش) هذا المدني المتحضِّر, ويقيم الدنيا ولا يكاد يقعدها!! : - (ياخي نحن ناقصين بَرْوَكَةْ ناس الضهاري ديل) (ياخي نحن الفينا مكفينا)! بعدها يعلن هو وأفراد أسرته - الذين تشربت طباعهم بلؤم المدينة وهلع الظنون السيئة- الحرب على طريقة اللبيب بالإشارة يفهم!.. وإذا لم يجدي ذلك يعلنونها صراحة -ولا عذر لمن أنذر- ويظلون يحسبون الدقائق والساعات حتى ينزاح عنهم ذلك البلاء العظيم الذي حل عليهم على حين غرة!. أما سيادة ضيوفنا المساكين: فيصبرون ولا يجدون من حيلة سوى أن يتأسوا بالمثل (الما بعرفك يجهلك) لكن المصيبة الكبرى أنهم يعرفونك (ذي جوع بَطَنُم).. لكن وكما تقول الأيام وتشهد الدنيا: في النهاية ستمر الظروف بحلوها ومرها وتبقى الذكرى! و(الحياة في النهاية شنو؟).... الحياة ذكـــري!! - عارف يا العوض أحسن باقي اليوم ده نغشي حاج عبد الواحد نشيل منو مكرفونات الجامع الرسلوهن معاهوا أولادنا من السعودية عشان بكرة بنكون مشغولين شديد بالإجراءات! إقتنعت سريعاً بإقتراحه: - كلامك عين العقل أحسن نكمل لفّنا كلُّوا باقي النهار ده..وبكرة نتفرغ للجوازات!.. هكذا ركبنا إحدى المواصلات العامة متوجهين إلى منطقة داخل الخرطوم يقال لها "بُرِّي" – على ما أذكر – والتي يقطن فيها نسيبنا الغريب الذي تزوج من إحدى فتيات (حلتنا) وقد عاد منذ فترة من السعودية في إجازته السنوية المعتادة, وهو يحمل معه الهدية التي تبرع بها أبناء قريتنا الذين يعملون هناك, وهي عبارة عن جهاز مكبر صوت مع سماعتين خارجيتين – لتفهم بصورة أوضح المقصود إستبدل كلمة سماعتين بـ (مكروفونين) وهذه الهدية القيمة كانت خاصة بالمسجد الذي بنيناه حديثاً بجهد ذاتي كبير!. ولا زالت كلمات شيخ فضل المولى إمام الجامع وهو يودعنا ماثلة في خيالي هو يوصينا أنا والسر: - شوفوا يا اولادي أوعى تجوني بلا المكرفون...! أنا كواريك الخطبة خلاص قرشت صوتي وحاج عباس الاذان ودَّر حِسُّو مرة واحدة ..سامعين كلامي ده يا وليدات...! - حاضر يا عمي الشيخ: أبْشِر ... قسم الجمعة الجاية أذان حاج عباس يشق حلال الجعلين السبعة..! وانت يا مولانا فضل المولى تخطب في الجامع مرتاااح!!!. نزلنا في إحدى المحطات التي يتوقف فيها البص, ثم توغلنا إلى داخل الحي ، كان السر موهوب في فهم مزالق الطرق والمواصلات, فإذا وصفت له موقع أي منزل في بلد ما غريب عنه, فهو لا يكاد يخطئه مهما كان الوصف غامضاً ومهما كانت البيوت كثيرة ومتشابهة, رغم أنه قد يكون لأول مرة في حياته يزور ذلك الحي الذي فيه المنزل أو حتى لأول مرة في حياته يزور تلك المدينة التي فيها الحي نفسه. أما أنا فكنت على العكس تماماً إذا حدث أن أقمت بمكان غريب وخرجت من المنزل لأداء الصلاة في الجامع مثلاً, ربما أضل طريقي إلى المنزل عند عودتي من المسجد!. كان السر أثناء مسيرنا داخل الحي يحسب الشوارع ويقرأ أسماء الدكاكين والبقالات ويلتفت يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شئ: - العوض أخوي هوي عاين لي يمينك بس شمالك ده خلي علي... كان شفتلك دكان قدامو صندوق بص قديم قول لي عوك... واصلنا في المسير على الأقدام علنا نظفر بالبقالة التي تمثل المفتاح الأساسي للخريطة, ولمسافة جعلتني أشعر بالعطش والتعب دون أن يظهر لناظري أي أثر لذلك المعلم الذي سيدلنا إلى مقصدنا, فجأة توقف السر مندهشاً: - أنا أخوك يا العوض... هَداكو الدكان القداموا صندوق البص!. هنا تغيرت وجهة سيرنا, وسلكنا الطريق الذي يميننا والذي في منتصفه تطل البقالة المقصودة. لم يمر وقت طويل فإذا بالسر (المسلّط) يضرب بكفة إحدى يديه على بوابة كبيرة أذكر جيّداً لونها الأحمر الطوبي. - كو كو كو ... سلام عليكم! كانت الساعة وقتها تجاوزت الثالثة والنصف عصراً - أو قل إن شئت بعد الظهر – ولكن الشاهد بكل صراحة وبمقاييس اليوم عند سكان المدن, كان ذلك توقيتاً مزعجاً وغير مناسب, ويعتبرون الذي يطرق الأبواب في مثل هذه الأوقات بأنه شخص متطفل (وجيعان) يقصد إصطياد الوجبات التي يكدِّون نهارهم كله في تحصيل ثمنها! فغذاء أصحاب البيوت في المدن ليس "كِسْرة بملاح ويكة" ولا "عصيدة بي ملاح روب أو ويكاب" !....لكن الوجبات التي يتناولونها عادة تتكون من عدة أصناف قد تكلفوا الكثير في تحصيلها, وغالباً ما تكون قليلة الكمية تكاد تكفي أفراد الأسرة فقط..! لكنها عالية الجودة!, فهم على عكسنا نحن في القرى إذ نهتم بالكمية بينما هم يهتمون أكثر بالجودة! رغم أنها قد تكلفهم الكثير, لكن كما يقول القائل : "حقيقة القادر بِسوِّي"!. ولهذا السبب على ما أظن تراهم بخيلين في طعامهم, ويتحرجون إذا داهمهم الضيف في بيوتهم, وعلى الأخص في أوقات الوجبات إلا أن يكون هذا الضيف "زول عزيز جداً عليهم" ومقيَّم إجتماعياً وماليا,ً أو يرجون من ورائه مصلحة مضمونة! أما سوى ذلك فالضيف عند الحضر شخص منبوذ وغير مرغوب فيه, خصوصاً في الأوقات التي يتناولون فيها الطعام, أما إذا كان في نية الضيف المبيت أو الإقامة لعدة أيام, فقد شن على نفسه حرباً خاسرة: لأنه إذا كان من المعارف إنقطعت العلاقة في الحال..! وإذا كان من ذوي القربى إنقطع الرحم وبدأت صفحة جديدة من الخصام والعداوة والجفاء...!. السر يطرق ويخبط على الباب للمرة الرابعة دون أن يأتي أحدهم ليفتح لنا!, حتى لا أخفي عليك شيئاً ـ أيها القارئ ـ فقد كنت أتضور جوعاً وألهث من العطش, حتى أن قدميّ لا تكادا تقويان على الوقوف أكثر!... وتمنيت أن يفتح هذا الباب سريعاً, ولكن ليس بهدف أن أضع حداً لمعاناتي داخل هذا المنزل الفخم – فأنا لدي خلفية لا بأس بها عن الكرم الحاتمي الذي يمتاز به سكان المدن لا سيما العاصمة ...! فقط أريد أن نستلم تلك الأمانة-مكرفون الجامع- بأسرع ما يمكن ونخرج منهم مسرعين إلى السوق العربي لنعالج فيه الجوع والصداع اللذين حلا بنا -الحمد لله جيبنا ما عدمان القِرِش – ومنه نتوجه إلى بيت العزّابة في أمبدة حيث سنقضي الليل!. عندما مل السر من كثرة الطرق الشديد باليد, أخذ حصاة كبيرة وجعل يضرب بها على الباب بقوة. يا للهول...! لقد كان لتلك الحصاة أثراً عظيما..ًلم نلبث قليلاً فإذا بنا نسمع وقع أقدام خفيفة سريعة تقترب من الباب, ثم فجأة ينفتح ويظهر لنا طفل في التاسعة من عمره ـ حسب تقديري ـ تبدو عليه آثار النعمة والدهشة من مظهر هؤلاء الأغراب الذين يقفون أمامه وهم يحملون حقائب, وعلامات التعب والإرهاق تطغى على ملامحهم, إلا أن السر سرعان ما تعرف على الطفل وهو له منكر!: - إزيك يا عز الدين ما عرفتني ولّى شنو...؟! أنا ما السر الكان شغال هناك في البقالة ديك....! اذكرتني ولا خلاص نسيتني!! - لا لا اتذكرتك.. أهلا اتفضلوا جوّى البيت!. سلّم علينا بأدب واحترام. (ما شاء الله نعم التربية). - اتفضلوا خشو الصالون. كان هذا بالنسبة لي مصطلحاً جديداً لكن يبدو أنه لم يخفى على السر ! - أسمعني قبال ما نخش.. أبوك قاعد ولا ماف؟!. - قاعد بس نايم.... بصحى ليكم هسع!. - آي صحيهوا لينا باقي نحن متسرعين...! ونادي لينا أمك النسلم عليها ونوريها أخبار ناس الحلة!!. تبعنا ذلك الطفل النبيه ألى أن أجلسنا في داخل غرفة واسعة, مليئة بكراسي الجلوس الفخمة, ثم أدار مفتاح المروحة فجاء هواؤها بارداً منعشاً, وقبل أن يخرج صاح به السر: - يا جنى أملالنا الجك موية باردة قبال تصحي أبوك!!. بالفعل لم تكد تنقضي دقيقة واحدة فإذا به يأتينا مهرولاً وفي إحدى يديه "جك" زجاجي أنيق مليء بالماء, وفي الأخرى كوب زجاجي لا يقل أناقة وأراد أن يخدمنا بأن يصب الماء لكل منا إلا أن السر تناول الجميع من يديه: - شكراً ليك يا شاطر أجري صحيلنا أبوك سريع قولو الناس ديل عشان متسرعين..!! ناولني السر كوباً من ذلك الماء الذي أحضره الطفل المؤدب... ما أن وضعت حافة الكوب على شفتيَّ وعبأت فمي بأول "بُقَّة" منه فإذا بلساني يخدر وبأسناني "تُطَقْطِق" وسرى فيها شئ أشبه بالصعقة الكهربائية -من النوع الخفيف طبعاً- بفعل ذلك الماء شديد البرودة!!.. - الخرابة الـــ ... السر؟! ... الموية دي باردة بردة شديدة خلاص..!! الجني ده عجيب خلاص...! دي موية شنو الجابا دي!!. وبينما نحن محتارين كذلك نتجادل في أمر تلك (الموية) بالغة البرودة ونحن في أشد الحوجة إلى ماء معتدل البرودة لـ (نَبِل به جوفنا) الذي كاد يحترق من فرط العطش!.. فإذا فجأة بالولد يأتينا ثانية: - صحيتوا قال جاييِّكم بعد شوية.. عاوز يتسوك!. - عديلة يا ولدي .... تعال ياخي امشي جيب لنا موية من الزير سـاي!! مويتك الجبتها لينا دي يا ولد باردة شديد... ما بتنشرب مرة واحدة!! - لكن ما عندنا زير..!! - خلاص جيبلنا موية الماسورة.. نكسرا بيها! ضحك الولد وذهب فظننا أنه سيأتي بماء ساخن من الماسورة, لكنه تأخر كثيراً حتى مللنا (وزهجنا) وتعجبنا من أمثال هؤلاء الأولاد الذين لا يسمعون كلام (الناس الكبار)! لكن السر يعجبك أحياناً في مثل تلك المواقف, لأنه دائماً ما يخلصك من تلك المآزق والأزمات!.. العطش يكاد يقتلنا والماء بالنسبة إلينا لا يصلح للشرب!.. لا نطيق برودته تلك..! قام السر من كرسيه وتحرك للخارج, ثم وقف عند باب تلك الغرفة الشبيهة (بالديوان) عندنا, والتي ما زلت أجلس في أحد كراسيها الوثيرة, وجعل يجول بنظره ويلتفت يمنة ويسرة, كأنه يبحث عن شيء مفقود.. ثم فجأة توجه مسرعاً نحو شيء لم ألمحه من موضع جلوسي ذلك.. لكنني عرفته عندما سمعت صوت الماء من الحنفية يصب وهو له خريرعلى الجك الذي كان يحمله, فعرفت أن هذا الماء -وبقوة إنصبابه تلك ومصحوباً ببعض (شخشخة) الأصوات الهوائية المتتابعة والمتقطعة بفعل قوة إندفاع الماء- لابد أنه يأتي من خرطوم حنفية ذات ضغط هوائي عالي واندفاع مائي قوي!!.... ثم أنه أخد يشرب حتى ارتوى تماماً.. بعدها أتاني (بالجك) وهو في منتصفه: - هاك أشرب يا اخوي... دابا بقت مويةً تنشرب.. لكن ما شاء الله موية حلوة خلاص!. أمسكت بـ (الجك) بكلتا يداي, ولم أضعه على (التربيزة) التي أمامي إلا وهو فارغاً تماماً. - الحمد لله...! دابا العطشة مرقت من جوفي.. الله يديك العافية يا السر!. أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي يتخلله الضحك, وأخذ صوتنا يعلو – ما خلاص بلينا ريقنا والهوا ضربنا – ونحن نتفاكر في كيفية إتمام هذا الحلم بالسفر للخارج, حتى يصبح بإمكان أحدنا على الأقل امتلاك منزل فخم كمنزل نسيبنا هذا لا سيما وأنه يعمل بالسعودية بمهنة مجرّد سائق, وهو لا يجيد القراءة والكتابة, وجعلنا نتأمل في أثاث الصالون الذي نجلس فيه: - عليك الله يا العوض شوف الرزق ده !!! ياخي نحن كان قعدنا في البلد بنضيع بالهملة ساي!.... - أقول لك حاجة يا السر؟ السنة دي ما عاوز أتمها هنا تب....!! البلد دي كان تابعناها تأكل شبابنا في الفاضي ســاااي!!. ضحك السر من إجابتي تلك وأعجبه ردي: - شوف يا العوض أخوي: الزول لامن يكون عندو حماسة ونية قوية: أي غرض دايرو بقضيهوا...! لكن الزول البتمايت وما بتحرك... الحبة ما بلقاها!!. بينما نحن كذلك فإذا به ينقطع ما كان يدور بيننا من حديث, إذ طرق سمعنا وبصورة ربما تكون مفاجئة, صوت يحيينا بالسلام: التفتنا نحو مصدر الصوت فإذا بها النعمة بت اللقية – بت حلتنا – ومعها عز الدين الصغير –الذي شرّانا في الموية- وهو يحمل (صينية) صغيرة بها كوبين من مشروب – لا زلت أذكر أنه كان لذيذاً واصفر اللون!. رحبت بنا النعمة بت حاج الفكي و(سالمتنا) بحرارة وشوق شديدين كأننا أتينا من أقصى بقاع الأرض وليس من حلة أم ورل القريبة تلك!، وجعلت تبكي كحال نساءنا لما ذكرت من أهل القرية وربما أهاج قدومنا كوامن الحنين الدافق فيها ,فتفجرت تلك الأشواق الدفينة والجريحة دموعاً ونحيباً!. وقد سأءني بكاءها ذلك وانتابتني أحاسيس- أنا الآخر - بالحزن والإشفاق لها,فبرغم أن زوجها كان يحرمها من الزيارات الكثيرة والمترددة للحلة, لكن ذلك هو حال الحياة لابد لك أن تفارق من تحبهم ولو طال بك المقام معهم. فرابط الزواج رغم أنه قد يقارب بين الأهل والأسر إلا إنه في الكثير من الأحيان يكون سبباً مباشراً للفراق والمباعدة, خصوصاً إذا كان الزوج غريباً, أو كانت ظروف العمل ومصدر الرزق قاهرة ومجبرة!. وحينما هدأت العبرات, واندس الحزن إلى داخل مخبئه في القلب الذي كاد يتفطر شوقاً وحنيناً إلى الأم والأب, وإلى الأهل والعشيرة وصويحبات الطفولة والصبا, قامت ومسحت الدموع حول عينيها لتخفي آخر أثر لذلك الحزن الذي هجم عليها من وكره الحصين. ثم جعلت تسألنا عن حال والديها وعن فلان..! وفلانة!, وعن جميع أهل الحلة: - أمي كيف عليكم الله وأبوي كيف..! والحلة كلها أخبارا شنو!! - أمك ما شاء الله في أمن وأمان...تب ما عندها عوجة!... وأبوك أصلوا ما بطل مشي الخلا من الصباح تلقى شادي حمارو مارق علي الحواشة!!. - الحمد لله بركة الكويسين... أوعا يكون في خبر بكا في الحلة أكون ما سمعت بيهو!. - لا لا الحمد الله السنة مافي حاجة كده بالحيل!.. علا حاج النضيف ود الخضر وقع من حمارو كاضِم : كان دار يعَدِّي أَبْ سِتَّة ضَنَّاب الحمار انقطع قام انزلق بي سرجو من الحمار!.. ودّو المستشفى تلاتة يوم ما فاق.. قلنا خلاص الزول ده بودِّع ... حرم لا من حفرنالو القبر علّى لكن طاب بقى كويس وقام نصييــح !! بس شوية كده بقى عندو حبة ضلعة في مشيهو!. ضحكت حاجة النعمة: - والله يا السر انت لسه في مَسْخَتَك دِيْك ... وكيف حالك يا العوض...! أمك وأبوك كويسين..! - الحمد لله ما عندهن عوجة... والله كل مرة بتذكّروا فيك. - الله يديهم العافية شيلوا الموية عليكم الله ما تْحِرّ! إلتفت السر نحوي وهو ممسك بكوب العصير: - اعمل حسابك ...أوعا تكون ذي الموية الجابا لينا عز الدين قبيل!. - أجي يا ولادي... جابليكم موية شنو الولد الشليق ده!؟ انا ما عارفاه ولد شالق خلاص!. - لا لا يا النعمة بت خالي... بس جاب لنا موية باردة بردة شينة خلاص.. لامن غلبنا نشربا!. ثم جعلنا نضحك جميعاً لتلك النكتة اللطيفة, وما هي إلا لحظات فإذا بـ (عمك الحاج) يدخل الصالون: - السلام عليكم ... أووووك السر ود المليح.. وناس حلة أم ورل!. قمنا فسلمنا عليه, كانت مباشرته لنا طيبة, وسلم علينا بالأحضان, وقد شكرت له في نفسي ذلك الإستقبال الحار الجميل, لأنني كنت متوجساً خيفة ألا يحسن إستقبالنا, أو يرحب بنا ترحيباً جافاً كما قد حدث لبعض أبناء الحلة, حينما أتى أحدهم بوالده مريضاً قبل عدة أعوام.واحترت لذلك الذي حدث, لكن ربما لأن علاقته بالسر جيدة, لأنهما في حديثهما يبدوان أشبه بالصديقين الحميمين, ولأن السر كان قد تردد كثيراً إلى منزله هذا وعرف طريقة التعامل معه. والآن فقط فهمت لماذا دفع السر بكلتا الحقيبتين خاصتنا برجله إلى تحت كراسي الجلوس الكبيرة الفخمة, وأخفاهما عن الناظرين!.. لأنه حتماً كان يعلم أن عمنا المغترب بخيل وشكوك وسئ الطوية, إذا فطن إلى وجود حقيبة مع أحد الزوار, سيجن جنونه ويصدق ظنه بأن هذا الضيف "الرِّمَّة" قد بيَّت النية بالإقامة "والركْلَسة" معهم والمبيت إلى الغد, وربما امتد الأمر بهذا الضيف المشئوم لعدة أيام, وهو يزاحمهم في خصوصياتهم وأمر راحتهم. لذلك سريعاً يعمل على هزيمة وسحق مثل تلك النوايا البريئة الطيبة بالتطفل على داره العامر, فيستقبلك بسلام جاف وبارد, ثم يضيف إلى ذلك "صَرَّة" ظاهرة على وجهه العابس أصلاً! ويتبع ذلك بالإختصار الكلامي في (الونسة) والردود اللاذعة, حتى يقطع في نفسك الطمع والتعشم للمبيت, ويفقدك الأمل تماماً في البقاء أكثر ليستحثك بالتعجل إلى الخروج, لأنك غير مرغوب في بقائك..! لكن رغم تلك الإيحاءات والإشارات اللاسلكية القوية الواضحة, التي يبعث بها حاج عبد الواحد إلى أغلب زواره من أبناء حلتنا بالأخص, ومن الكثير من قرى وحلال الجزيرة التي حولنا, إلا أنه يبدو أن أدمغة الكثير لا تستقبل مثل تلك الإشارات عالية التردد, أو قد تستقبلها ولكن تفشل في ترجمتها وتحليلها وفك شفراتها!, وكان حاج عبد الواحد في البدء ـ كما تعود ـ يبعث بها إلى أدمغتهم الخربة وهي مشفرة ... فلا يظهر أي نوع من التأثر أوالإستجابة..! وعندما يتيقن عمنا من أن قرني الإستشعار الخاص بتلك الحشرات المتطفلة الحقيرة والناقلة للأمراض: لا تعملان!.. وأنه لا جدوى من إرسال المزيد من الإشارات...! سريعاً يلجأ الى إبره الحادة ليطعن بها على مثل تلك الجلود (التخينة) التي لا تحس!. قد لا تصدق ذلك أيها القارئ...! أنه يلجأ – كما حدث ذلك مراراً – إلى وسيلة الطرد الصريح دون حياء ودون إكتراث لردة الفعل التي قد تنتج جراء ذلك التصرف اللئيم البعيد من المروءة والإنسانية، إلا أن الأعجب من كل ذلك أن هؤلاء المطرودين من قبل ذلك الكلب اللئيم، والذي تعود أن ينبح من بعد على كل من يقترب من قلعته السحرية تلك, يعودون إلى الحلة ويتندرون بما حدث لهم معه من شجار وطرد, تبعه مبيت في أحد الجوامع أو اللكوندات المتعفنة، والغريب في شأنهم أنهم يسلِّمون بذلك ويرضونه, ولا يعيبون عليه تلك المعاملة الشائنة التي عاملهم بها, ويكتفون بالقول بأن: (ناس المُدُن ديل أصلوا طَبِعُن كدي) أما الأمر الذي يثير إندهاشك هو: أنك تجد هؤلاء الضحايا هم أول من يستقبلون ذلك الحاج عديم المروءة,عند زيارته الحلة, ويتنافسون في خدمته وإحترامه!... إن ذلك بالجد يذكرني بمقطع معبر لبيت شعر من عيون الشعر العربي (وما لجرح بميِّتٍ إيلام), ولا أملك أن اقول عن أهلنا هؤلاء إلا كما يقول بعض العامة: (ديل: الدوكة الما بْتَحَما)! و(الكَلِب بِرِيد خَنَّاقُو)!. - مرحب بيكم والله... ناس الحلة كيف والله طولنا منهم شديد. - تمــااام التمام ...الحمد لله عوجة واحدة ما عندهم. عم الصمت برهة من الزمن ثم أردف السر قائلاً: - يا حاج عبد الواحد صراحة كده نحن متسرعين قايمين هسع .... بس عم فضل المولى قال عندو وصية معاك أظنها مكرفونات الجامع!. - ها ها ها صحي والله أنا جيت من السعودية لي عشرين يوم المفروض أجيب الوصية دي بنفسي لكن ما قدرت... بالله كيف مولانا فضل المولى...!. - نصيح بس طالب المكرفونات عشان يرتاح من كواريك الخطبة...! - ها ها ها المكرفونات الرسولها أولادكم ديل بتجيهو تب ... كدي قوم معاي يا السر شان نمرق الصندوق بتاع المكرفونات من المخزن... خرج السر مع عبد الواحد وبعد قليل عادا وهما يحملان معاً كرتونة كبيرة, وضعاها على أرضية الصالون, وقام عبد الواحد بفتح الكرتونة ليرينا ما بداخلها: - شايف يا السر ويا سموك منو...؟ العوض..! ديل مكرفونين معاهم جهاز تكبير جُدَاد من الشركة شفتو الحاجات دي كويس....؟؟! - يا حاج عبد الواحد الحاجات دي ما واضحة.... كلها كمها؟ ما تلاتة حاجات مكرفونين ومعاهم المُكبِّر!. - هوي يا ولد خليك نجيض..! الحاجات دي بتتشاف بسيطة.. لكن غالية شديد.. ومع غلاتا دي معدومة في البلد!.. خليكم حريصين أحديِ ما توصلوا الأمانة لمولانا فضل المولى!. - اطمّن تب يا حاج عبد الواحد... والله شيخ فضل المولى اختارنا من بينات الناس عشان الأمانة دي.. والثقة بيناتنا يا حاج!. - أنا واثق فيكم يا أولادي.. بس انا عاوز اوريكم عشان تكونو حريصين!. سحب السر حقائبنا من تحت كراسي الجلوس ووقفنا متأهبين لنذهب: - أها يا جماعة فتناكم بي سلامة!. صاحت حاجة النعمة: - أجي يا أولادي تمرقو بدون غدا والله كان تقعدوا تتغدو ... - والله أسمحي لينا تب يا الحاجة ... عشان عندنا لف كتير وبكرة مسافرين .... ما بنقدر نتغدى الحالة واحدة يابت عمي ...! كانت تلك إجابتي والسر يضحك وهو (يكرّب) في كرتونة (المكرفون) بحبال بلاستيكية بيضاء. وأنا من الداخل أحشائي تتقطع من الجوع. وأظن أخي الكاشف هو الآخر كذلك، ولكن لا يجرؤ أي منا على التراخي لتناول الغداء لأجل أن يَبِر عزومة أو حتى قسم إمرأة لا تملك أي حول أو قوة أمام ذلك الرجل البخيل الذي لا يحب الجود بطعامه إلى الغرباء .... وأخيراً عندما إنقطع عشمنا وكدنا نفقد الأمل في تذوق طعام حاجة النعمة بسبب خوفنا من الحرج الذي قد يوقعنا فيه زوجها الذي بالكاد يستقر مزاجه على حال!... لكن شاء القدر أن يصيح بنا عمنا بعد أن تيقن بأننا قد عقدنا عزمنا وقطعنا أمرنا بالخروج والمغادرة!. - هوي يا اولاد ده كلام شنو حرّم كان تتغدوا بعداك أمشو... قومي يا النعمة جهزي ليهم غداياً سريع كده... عشان يلفو الزمن ويقضّوا أشغالهم. قمت أنا أصيح متصنعاً ومنافقاً، أجادل في أمر هذه (العزومة) التي أذهبت ما تبقى من ماء وجهينا الذي ذهبت بجله حرارة الشمس وإرهاق السفر: - يا حاج عبد الواحد مافي طريقة الزمن خلاص سرقنا ... لكن السر لم يمهلني : - خلاص يا العوض اقعد... الزول حلف حرام عاوز تدخلنا في كلام تاني ولا شنو...! خلينا نتغدى عشان تتخارج سريع...! جلسنا مستسلمين وكأننا مكرهين على ذلك، وفي الواقع نخفي في دواخلنا لهفتنا للطعام الذي كنا ننتظره ونستعجل حضوره!. أما حاج عبد الواحد فقد كان مرتاحاً ومنتشياً لما أبداه من كرم، علّه بذلك يغير شيئاً من الصورة التي إنطبعت عنه لدى أهل قريتنا.. لا أنسى أبداً وهو جالس على إحدى كراسي الجلوس واضعاً إحدى رجليه فوق الأخرى، وقد كانت بالنسبة له فرصة ذهبية لا تعوض ليحكي لهؤلاء (الطُرُش)- المتمثلين في شخصينا – عن بطولاته ومغامراته في بلاد الغربة، وقد صور لنا نفسه هناك وكأنه أمير وليس مجرد سائق – كان قلّ أدَبُوا بِطُرْدُوه ويجيبوا غيرو- ليأتي إلى السودان عائداً وعبر البحار ضمن (ناس الكشة)! بل ذهب أبعد من ذلك فقد زعم أن هؤلاء العرب أغبياء (وبُلَدَا) ولا يفهمون أي شئ!!.. وأن السودانيين هم أصحاب العقل الفكر، ولولاهم لضاع هؤلاء العرب و(راحو فيها) لأنه ليس من بينهم أذكياء وجميعهم أغبياء ، لقد بدأ يغيظني بمزاعمه تلك!. نعم أنا شخص بسيط لا أملك مؤهل علمي سوى الشهادة السودانية بنسبة نجاح- أذكرها 57% - رغم إعترافي بقصوري العلمي، إلا أنني مطلع على بعض الأساسيات العامة والمسلمات فيما يخص الأمم والشعوب، بدءاً من مواقع الأمم بدولها المختلفة على خارطة العالم, إلى عاداتها وتقاليدها! ... جزء عرفناه في علم الجغرافيا والجزء الآخر عرفته من إطلاعي في الصحف والمجلات وبعض الكتب الثقافية التي سنحت لي الفرصة الإطلاع عليها. وكنت فيما علمته مما قرأت أن أمة العرب تعتبر من أذكى الأمم، وهي الأمة الوحيدة المؤهلة والقادرة-وبجدارة- على قيادة العالم!! هذا الكلام قرأته عن كاتب غربي لا أذكره ... أما في غرارة نفسي فكان يكفيني أن نبي آخر الزمان كان من أمة العرب ولغة القرآن العظيم جاءت بلسان العرب ... فماذا بعد هذا ؟! ... فنحن السودانيون يجب ألا نفرح كثيراً لهذه الحقيقة لمجرد نطقنا للعربية، ونتعصب لإنتمائنا العربي وندعي أننا عرب صرف! ... فنحن في النهاية – بما فيهم العبد الضعيف- مجرد هجين يطغى علينا الدم الإفريقي الحامي "الحار"! ، وبمرور السنين والعقود والأجيال والقرون ... حتماً سيتلاشى هذا الدم العربي -الذي هو عقدة الكثير منا نحن السودانيين- فينا ولا يبقى له أي أثر!!. وفي الجانب الآخر إذا سلمنا بأننا سودانيون لهم تميزهم العرقي - رغم نطقهم بالعربية – الذي يختلف عن العرب ، فمن المضحك أن ندعي أننا أذكى منهم، أو أننا أكثر حضارة من العرب لسبب بسيط: وهو أن الحقيقة تقول غير ذلك الذي ندعيه والتاريخ يشهد! ويؤسفني أن اقول هنا: (الجمل ما بشوف عوجة رقبتو)! وأرجو ألا تنطبق علينا حكاية (الما بتلحقوا جدّعوا)!. أعذرني أيها القارئ!.. ولنعد إلى عمِّنا فقد زعم في إحدى قصصه أنه قد تآمروا عليه وأرادوا أن يستبدلوه بسائق هندي ... صعد الأمير صباح اليوم التالي كعادته إلى عربته اللاندكروزر صالون – ليلى علوي حتى يفهم من لم يكن قد فهم- وأغلق الباب ثم التفت نحو السائق ليحيه فإذا به غير ذلك السائق الذي ألفه: - قف عندك؟! لا دْوِّر السيارة ...! مين أنت؟ عبد الواحد وين راح؟ أجابه الهندي وهو( يتكبكب) ويرتجف: - أنا هنا جديد سائق.. مهاجري أعطي وظيفة أقود سيارة أمير...! والهنود كلامهم سريع وركيك، خصوصاً الذين يقدمون لأول مرة إلى المملكة ... غضب الأمير السعودي وأخرج جوالاً – هل سمعتم بهاتف سيار في الثمانينات – وجعل يتحدث بلهجة ساخنة وغاضبة مع رئيس السواقين وهو سعودي الجنسية: - انت مخبول يا مهاجري أيش خلاك تصنع هذا؟ أسمعني جيّد ... أنا لا أبغي كلام كثير! .. خلي هذا الهندي يروح ... أنا ما أشتهي واحد يقود سيارتي غير هذا السوداني عبد الواحد .. أنت فاهم...!؟؟ ثم أنهى المكالمة وخرج من السيارة وهو غاضب! وذكر لنا عبد الواحد أن مهاجري الذي يشغل منصب رئيس العمال والسواقين إستوقفه في نفس ذلك اليوم وهو يقود عربة المطبخ – وهي الوظيفة الجديدة التي اوكل بها بعد إستبعاده من القيادة للأمير – وكان مهاجري مرعوباً وتبدو عليه علامات الفزع والخوف: - عبد الواحد أترك عربة المطبخ هذي.. وروح قود للأمير سيارته!... - قلت شنو يا كلب !.. حرّم كان انطبقت السما علي الوطة تاني ما بقود للأمير انت معرّس ولا شنو؟!.. روح انت قود للأمير!... مهاجري المرعوب يترجى عبد الواحد ويستعطفه ليرجع ويقود للأمير، وهذا الأخير يتعنت ويصر على رأيه بأن لا يعود مرة أخرى للقيادة، إلا بشرط واحد إذا قبله مهاجري فأهلاً، وإلا فلا داعي بأن يتعب نفسه بكلام لا جدوى من ورائه: - شوف يا رجّال ما برجع أقود للأمير إلا تزيد راتبي لعشرة ألف ريال... وبي مكتوب رسمـي من الأمير.. ما دايرا عشرة ألف في الهوا ساي....! - يا شيخ عبد الواحد.. الله يرحم والديك!.. انت الخمسة آلاف الي تأخذها هذه ما في واحد هنا يعطوه مثل هذا المبلغ! ...الحين تقول أبغي عشر ألف ريال.. أيش هذا الكلام الفارغ...! غضب مهاجري أشد الغضب وتركه، لأنه بسبب الخمسة ألف ريال – كما يزعم صاحبنا – تآمر عليه وفصله ليقتسم المبلغ مع الهندي المسكين. ثم أنه ذهب إلى مكتبه ليتحادث مع الأمير بالتلفون مخبراً إياه بأن السوداني رفض العودة مرة أخري للأمير، واشترط أن يرفع راتبه إلى مبلغ عشرة ألف ريال حتى يعود للعمل ثانية: - أسمع لي جيد يا مهاجري... لازم تجي لي الحين ومعاك السوداني في المكتب...! ثم قطع الحديث بهذا الأمر ولم يزد حرفاً .. واصل العم حكايته وقال إن مهاجري عاد إليه مرة أخرى وأخبره بأن الأمير يريده شخصياً...!. - يا شيخ عبد الواحد الأمير يبغى يتحدث اليك ف المكتب... ولما مثل الإثنان أمام الأمير، حيث كان السعودي مرعوباً بينما اليسوداني ثابت لا يتحرك له ساكن، وجه الأمير حديثه إلى الأخير: - إيش خلاك يا السوداني تترك تقود سيارتي...! إيش جرى لك....! - يا سعادة الأمير أنا ما تركت أقود سيارتك من نفسي.. مهاجري هذا قالي من الحين تروح تقود سيارة الطبخ ما نبغاك تقود للأمير بعد اليوم..! - هلا هلا يا مهاجري... الزول هذا ايش تقول في كلامه...!! - يا سعادة الأمير حفظك الله.. هذا السوداني ما ينفع يقود للأمير! أولاً: كسلان ما يصحى مبكر في النوم.. ويضع شيء أسود يسموه "صعود" تحت شفايفو.. وما يهتم بلبسه وشكله..هذا أبداً ما يليق يقود لسيادتك!...وو قاطعه الأمير.. - أنا كل هذا الكلام ما يهمني... أنا أبغي هذا الرجال يقود لي سيارتي والســلاااااام !...وإياك يا مهاجري تعملي مشكلة تاني مع السوداني هذا...! مفهوووم!!. - لكن يا سعادة الأمير هو يقول: أبغي عشرة ألف ريال.. وإلا ما أروح أرجع الشغل...! - أعطيه لأنك انت السبب ما هو ....! وأخذ عبد الواحد يضحك ضحكاً مجلجلاً صك به آذاننا: - عارف يا السر ويا العوض أنا لي تمانية سنين شهرياً بصرف عشر ألف ريال ما ناقصة ولا فلس!.. والسعوديين المعاي كلهم بحترموني وبهرشو مني!! بدأت أتيقن أن هذا الحاج يهزي، وربما هو في طريقه إلى جنون العظمة... وتفخيم الذات!. كيف لسائق سيارة حتى ولو إفترضنا أنه يقود لأمير أن يقبض شهرياً مبلغ 10 آلاف!.. -لا سيما في فترة الثمانينات- حيث كان للريال قيمة ويحسب له ألف حساب! وهذا أمر صعب عليّ أن أصدقه لأن رفاقي جميعهم كانوا يعملون بالمملكة وأخبارهم بكل تفاصيلها الدقيقة معي -وفي وقتها- ولم أسمع من أحدهم أنه يأخذ شهرياً خمس هذا المبلغ الخرافي! ومثل ما حكاه لنا عبد الواحد مر بي كثيراً، ومن عدة أشخاص حتى كدت أسلم بأن الشخصية السودانية تعاني من مرض خطير: وهو الإعتزاز الزائد بالنفس، حيث يتوهم أحدهم بأنه (الكل في الكل) وأن ما سواه ممن حوله (غنم ساي) لا يفهمون!.. لدرجة أنه يهز الثقة في ذاتك ويجعلك تتشكك في نفسك!!.. إلا أنك حينما تدقق حوله النظر وتمعن في التفتيش عن حقيقته، وعن طبيعة عمله وطريقة تفكيره وتعامله في الحياة، ستكتشف أنه يعمل في مهنة حقيرة، وربما الذين حوله في العمل يحتقرونه ويتهمونه بالغباء، ومع ذلك لا يهديه تفكيره ليطور نفسه وأسلوب تفكيره، بل وحتى مهنته، إلى مستوى يتناسب مع ما يزعمه ويدعيه من الكبرياء!. والمخدوع في أمثال هؤلاء دائماً ما يظن أنّ (القبة فيها فكي) إلا أنه في النهاية وبكثرة التكرار- التي تعلم الحمار- حين يدخلها ويرى ما بداخلها سيكتشف و يتأكد أنه إنما كان يسمع جعجعة فارغة، ومن ورائها الحقيقة الكاذبة التي لا يرى فيها طحناً!. فأنا أكره الذي يفتخر بنفسه ويحيطها بهالة من الإعظام والإدعاء الكاذب بالأهمية، فترانى أحبس أنفاسي وأحسب الثواني، حين أضطر لأن أسمع من أشباه هؤلاء الذين يعانون من مركب نقص يسميه أطباء النفس (داء الإفتخار والفشخرة). ولا أدري بكم شعرت من الراحة، عندما عادت حاجة النعمة ووضعت صينية الغداء أمامنا: - إتغدوا يا أولادي غايتو جهزت ليكم غداياً سريع كده...! - تسلمي يا بت عمي يا خي تعبناك معانا... - أجي يا ولادي تعب شنو..؟ دا الواجب!. ثم أن السر خرج وهو يكفكف كمي (جلابيته) التي بدأ بياضها يذبل، بفعل ما لصق بها من أوساخ وأتربة أثناء التنقل، خصوصاً تلك التي تكون متجمعة على مقاعد المواصلات الداخلية , توجه نحو الحنفية ليغسل يديه وتبعته أنا الآخر ، ثم جلسنا لنأكل طعام الغداء: - حاج عبد الواحد أرح أكل معانا!... - لا لا يا ولادي ...أكلو طوالي باقي نحن بناكل متأخرين شوية...نحن ما قاعدين نتغدى أقل من الساعة خمسة!!0 وللحق والحقيقة كان غداءً متأخراً جداً بالنسبة لقرويين أمثالنا.. أضف إلى أن كميته كبيرة جداً بالنسبة إلى شخصين – أربعة أصناف من الملاح والعيش مردوم على جوانب السفرة – جعلنا نأكل بشراهة وبتسابق ونهم ، حتى تعرقت جباهنا وصار العرق يسيل على جوانب رأسينا ، فأنا لا أنسى تلك الشطة (المَصلّحة) بعصير الليمون والدكوة ، فقد كانت حارة و(سُخْنَة)!، وقد التهب لساني من حرِّها وجعلت آذاني (تُطَقْطِقْ) من فرط سخونتها، وشعرت بأن إحدى أذناي قد انفتحت (طق!) - بصوت – بعد أن كانت مغلقة!!. وما هي إلا دقائق معدودة فإذا بالصينية – التي كانت قبل قليل معبأة تماماً بالطعام – فارغة من كل شئ إلا من بعض العظام في بعض جوانبها أما (الصحون) الأربعة التي كانت عليها فهي نظيفة تماماً، ولا أظنها كانت ستحتاج إلى أن تغسل أو تنظف مرة أخرى. إتكأ السر بظهره على الكرسي بعد أن لعق أصابعه جيداً وأطلق (دشوة) طويلة مدوية: -عااااع ع ع... الحمد ليك يا رب ...وربنا يدوم النعمة! ثم قمنا لغسل أيدينا فصاح عبد الواحد: - أقعدوا ياخي تمُّو غداكم خلي الولد يجيب ليكم الزيادة... - لا لا والله الحمد لله ... ما فضلنا فضلة.. شبعنا تب ما بنختشي والله!. وما أن عدنا إلى الصالون بعد أن غسلنا أيدينا فإذا بنا نجد أن الشاي قد حضر! ما هذا الكرم الغامر...؟! وعقب تلك الوجبة الدسمة والتى أعقبتها بثلاثة أكواب من الماء البارد... عند ذلك فقط بدأت أحس بأن الحياة أخذت تدب في جسدي وكفَّت بطني من العواء والقرقرة. وما أن وضعت كوب الشاي الراقي الذي كانت تفوح منه رائحة (الهبهان) على المنضدة التي أمامي بعد أن أفرغتها إثر رشفات و(شفطات) معدودة وسريعة، فإذا برأسي يكف هو الآخرعن الضربان ويختفي الصداع، وهنا بالذات إستعاد جسمي نشاطه بالكامل!. نهضنا مودعين ..ثم قمنا بنقل حقائبنا -مع الكرتونة الأمانة- من الصالون ووضعنا الجميع بجانب البوابة: - ودعناك الله يا حاج عبد الواحد والله متشكرين وربنا يزيدكم... - مع السلامة يا ولادي سلِّمو لي كتير على ناس الحلة وبالأخص مولانا فضل المولى والأمانة سلموها ليهو في إيدو. ثم جاءت النعمة ومعها كيس بداخله عرّاقي لأبيها وتوب لأمها: - ودعتكم الله يا ولادي الوصية دي تدوها لي أمي وسلموا لي على ناس الحلة كلهم بدون فرز وقولو لي أمي بِتِّك النعمة وعبد الواحد جايين الحلة بعد عشرة يوم كان الله سهل ما كدي يا عبد الواحد!. - إن شاء الله عشرة خمستاشر يوم بالكثير بنجي الحلة والله طولنا شديد منها بس ما تنسو سلموا لينا عليهم كلهم!. - يبلغ إن شاء الله أها مع السلامة. | |
|